الشهيد والفقير والمثقف فضيل بومالة

Publié le

ما أكثـر ما قرأت من بحوث ودراسات وبرامج رسمية أو حزبية أو مستقلة عن أسباب تخلفنا ومكامن ضعفنا·· وما أكثـر ما سمعت أيضا من خطب ومحاضرات عن ''الحلول الجاهزة'' وشروط إقلاعنا وكيفيات ذلك من حيث التغيير السياسي والتحول الاقتصادي والإصلاح التربوي وتقليص الهوة المعرفية والتكنولوجية بيننا وبين ''الآخر'' المتقدم· وكلها تجمع عند جميع الأطراف على أن بلادنا ''مريضة'' في الوقت الذي تمتلك فيه ''وسائل العلاج''، فلماذا لا نعالج إذا وهل لأي كان القدرة على العلاج؟!

 

وخلاصة ما استنتجته ـ مع تقديري للاجتهادات المخلصة تحديدا ـ لأن هناك من ''يجتهد'' ويفكر ويخطط بل ويلتزم تنظيرا وممارسة كي لا تقوم للبلاد قائمة·· (والغاية لم تعد في نفس يعقوب فالكل أصبح يعلمها ويدركها!) أمران إثنان:

ـ إما أن التشخيص انتقائي ذري غير سلم بمختلف بنى الواقع المتأزم، وبالتالي فالمقاربات تأتي جزئية غير قادرة على معرفة الجزائر وعللها من حيث جذورها وتفاعلاتها وتراكماتها واتجاهاتها المستقبلية، ومن ثم يظل التصور، حتى وإن صحت جوانب فيه، عاجزا عن التغيير والتأثير في الواقع أيا كانت طبيعته، فيصبح ''وهما آخر'' كغيره مما سبق·

وإما أن الحلول المقدمة ارتجالية ظرفية فوقية أو ''مستوردة'' كغيرها من المواد التي نستهلك، حتى وإن عرضت في قوالب ناجعة، فتزيد الهوة عمقا والواقع سحقا والمعيشة ضنكا·

إننا أبعد الناس عن معرفة حقيقة ما يجري فينا وعندنا ولذلك غالبا ما نلجأ إلى ''تحاليل'' الآخر عنا وكيف يفكرنا! مثل ذلك مثل دراستنا لتاريخنا الطويل، لكنه بأقلام غيرنا بل وأخطر من ذلك وبدون شعور وتمييز، ندرس ''تاريخ الآخر'' عندنا لا غير، وما عدا ذلك، نظل نبحث عن ذاتنا وهويتنا ونكتفي كل بطريقته وغايته بالتشبث بشذرات مشتتة من ذلك التاريخ·

إن الواقع الذي يغيب فيه الحوار والاختلاف بشتى أنواعهما لا يولد إلا القطائع والإقصاء والتكير والاحتكار المميت للأفكار القاتلة·

للقارئ عليّ حق الاعتراف، وأنا أكتب هذا المقال أنني لم أستطع تمالك نفسي حد البكاء أسفا وحزنا على ما آل إليه وطني· بالطبع، هنالك من العرّابين ما يكفي ليقولوا هذه مبالغات فنحن بخير·· لهم ذلك ما داموا ''يغترفون''· أما أنا، فلي الحق أن أفكر وأشعر كيفما شئت، وقد يمكنني أن ألخص ذلك التفكير ''الساذج'' مقابل ''تفكيرهم'' الراجح والحكيم، بالعنوان الذي اخترته لما تقرؤون: ''الشهيد والفقير والمثقف''·

فبعيدا عن الأطروحات الأكاديمية والتحاليل السياسية والاقتصادية، يسكنني الاقتناع الراسخ أن أزمتنا و''عطبنا التاريخي''، علاوة على كونها بنيوية (تمس مختلف المنظومات المتشابكة بما فيها أساسا بنياتنا الذهنية) وليست تقنية أو ظرفية أو مالية، تكمن في نخاعنا الشوكي الجماعي ذي الأبعاد الثلاثة التالية:

1 ـ أن أمة تحول إراديا أو قصريا دم شهيدها إلى ريع نفطي وتنسى روحه وأصالة جهاده وتطعن في صميم حلمه وتجعل من ذاكرته سمرا واحتفالا وتدنس ''قدسيته''، لا تستطيع ولن يتأت لها بناء مرجعية قيمية مستقرة خاصة وأنها جعلت من سلوكات ''جويلية'' مناهضة لـ ''نوفمبر'' وما صَلُح من كل التاريخ، وعندها تصبح كأوراق الخريف، تذبل وتصفر وتتطاير وتموت· وأعظم من ذلك وأجلّ أن ''دم الشهيد'' المخدوع سينتقم لنفسه إن آجلا أو عاجلا، فالمصالحة مع ''دم الشهيد'' بعيدا عن الديماغوجية والشعبوية أول خطوة في العلاج·

2 ـ إن أمة تتحول فيها ''سلطتها المختلفة والمتعاقبة'' إلى ''إقطاعيات جديدة'' تغتني بثرواتها وتفقر شعبها، لا يمكن أن تبني مشروعا وطنيا· فأي اقتصاد هذا (وأية سياسة هذه؟) الذي لا يجعل من ''الفقير'' محوره وغايته؟ وعن أية تنمية نتحدث ونسبة الفقراء فيما دون خط الفقرتزداد يوميا؟ لعمري، لقد أصبحنا نموذجا اقتصاديا في صناعة الفقر!؟ وتلكم الخطوة الثانية في العلاج والخروج من ذلك النفق المظلم الطويل الذي عرفنا كيف ندخله ونزج بالوطن فيه ولم نع بعد كيفية الوصول إلى نهايته·

3 ـ إن أمة ''يستوي فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون'' كونها لا تحتاج إلى ''عقول'' رغم ما تصرفه في تكوينها في الداخل والخارج، لا يمكنها أن تجد لنفسها بقعة في هذا العالم اللامتناهي في التعقيد والمنافسة· فإلى متى يظل ''المثقف'' عندنا مهمش فكره مغتال عقله؟ إلى متى يظل ''صانع القرار ومتخذه'' في مختلف دوائرنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية ''أبعد الناس عن سياسة الملك''؟!

إن أمة لا تحترم ''مثقفيها'' ولا تجعل منهم المنارة التي يقتدى بها ستظل تراوح مكانها خارجة عن زمانها·

إنّا لا نريد بالضرورة مثقفا وعالما على رأس كل هيئة كبيرة أو صغيرة، إنما نريده حلقة الرأي والمشورة والقرار في كل مكان·

وأعتقد أن ذلك هو الخطوة الثالثة في العلاج·

ما أعظم هذا التفاعل الكيميائي بين روح الشهيد وإرادة وقلب الفقير وعقل المثقف!

فيكم بالتأكيد من سيقول لي: نعم، هذا جميل لكن لا حياة لمن تنادي·· وفيكم من سيقول: طوباوية ورومانسية·· من حقكم جميعا!! أما أنا فأقول فقط: هكذا أفكر!

Publié dans المقالات

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article