عقــــــولنا فضيل بومالة

Publié le

 

لا أدري إن كان من المجدي الحديث للمرة المليون عن وظيفة ''العقول'' أو ''النخب الثقافية'' في تحريك المجتمع وتثوير (من الثورة) الذهنيات وتثقيف دوائر السلطة (أيا كانت مدنية أو عسكرية) وإرشادها في عمليتي صناعة القرار واتخاذه·· ومن ثم تصور مشروع إجتماعي مفتوح على الذات والعالمية في جزائر الألفية الثالثة !!

أتساءل عن جدوى ذلك لأن الكل مجمع على أن العقل والذكاء والمعرفة هي الآليات الوحيدة الكفيلة بإخراجنا من ''الكهف'' ومساعدتنا على الانتقال من مجتمع ما قبل الحداثة ومرحلة ''الطبيعة'' الى مرحلة ''الثقافة'' والمجتمع السياسي·· غير أن الواقع مختلف كلية ومناقض للإجماع· وأخطر من ذلك أنه كلما توسعت دوائر التكوين وارتفعت الأعداد وتضخمت المبالغ المخصصة لذلك، كلما تراجعت مكانة العقل والتفكير والثقافة من حيث المكانة والشرعية والوظيفة· وبتعبير آخر كلما انغمسنا في عوالم ''التعقيد'' و''الذكاء اللامتناهي'' و''المنافسة المالية'' بين الأمم، كلما تراجعنا نحن الى آليات التفكير القبلي والجهوي والعصبي··· وكأننا نريد أن نقول للعالم أنه بغير العلم وإنتاج المعرفة يمكننا اللحاق بركب الحضارة والمدنية·· وأنه بغير الحرية وحقوق الإنسان والتعددية الفعلية والحوار السياسي والاجتماعي، يمكننا أيضا بناء نسق جديد للديمقراطية والجمهورية والدولة المعاصرة·

إن جزائر اليوم في أمس الحاجة (بل ولا بديل لها) الى ثورة حقيقية في بناها المختلفة واتجاهاتها الكبرى بسبب التحديات الخارجية وضرورة مسايرتها للعالم من جهة ورهاناتها وأزماتها الداخلية المفتوحة على كل التراكمات الكارثية التي عرفتها منذ الاستقلال· وإذ أقول هذا فذلك لا يعني أن شخصا بعينه أو سلطة بذاتها (سواء اتفقنا معها أو لا) هي الملزمة في كل الظروف بإيجاد الحلول وتقليص الأزمة بدل تفريخها· إن المسؤولية جماعية لأن الخلاص للجميع والهلاك لن يستثني أحدا أيضا· غير أن مسؤولية السلطة هنا تحديدا تكمن في تحرير رقاب العباد وتوسيع مجالات المشاركة والحوار واقتراح الخيارات والبدائل (أفرادا ونخبا سياسية وفكرية واقتصادية وعسكرية··· الخ) مع إرساء قواعد واضحة للمراقبة وإدارة الاختلاف·

وهنا تندرج عمليا وظيفية العقول المبدعة والمفكرة في تفكيك الأزمة ومعرفة الواقع وبناء مشاهد للحلول تقدم لمؤسسات الدولة الضخمة التشريعية والتنفيذية والقضائية·

فزمن الارتجال والتجريب والمزاج قد ولى وإن لم نستغل هذه ''الفرصة الأخيرة'' من أجل تصحيح المسار وتوطيده وحمايته، فالله وحده الذي يعلم حجم الكوارث والانفجارات المستقبلية· فالسياسة بمؤسساتها الرسمية والحزبية والجمعوية خاوية على عروشها· ولا أعتقد أن رئيسا، أي رئيس، مهما كانت نواياه وقدراته، يستطيع بمفرده أن يلعب كل هذه الأدوار، سلطة ومعارضة و ··و··الخ·

كما أن ما يسمى بالاقتصاد لن يؤتي أكله إلا لصالح من لا يريده ناجعا وحقيقيا وليس وهما مرتبطا فقط وفقط بمال الريع النفطي·

وكذلك المنظومة التربوية والجامعية والعدالة التي أصبح يخشاها المظلوم قبل الظالم· وحتى ما يبدو أنه ''عودة للأمن'' على حقيقته في مظاهر كثيرة إلا أنه يظل هشا و''أمنا عنيفا'' يحمل سوسيولوجيا بداخله أنواع جديدة ومختلفة وأكثر حدة من العنف، والواقع أعمق من التسميات وأخطر من الشعارات·

إن دور ''العقول'' أصبح أكثـر من ضروري خاصة أن العقل في بلادنا عرف التهميش والاحتقار والتهجير والاغتيال، ورسالة النخبة هنا نعني بها الدينامو والمشحذ·· ولن يتأت لها ذلك إلا إذا كانت طرفا مباشرا في مختلف المعادلات، بمعنى الوظيفة الحراكية والتغييرية، وأهم من ذلك اجتثاث المجتمع من ''الماضوية'' وإدخاله في عوالم المستقبل·

إن أمة تبحث منذ استقلالها وفي كل لحظة أزمة عمن يقودها ويدير شؤونها حري بها أن تبني نخبا سياسية داخل السلطة والأحزاب والمجتمع المدني· وهنا نقول أنه حان الوقت أن تكون ''السياسة'' ثقافة ووعيا واجتماعا وليس لعبة واحتيالا وحيلة ومغامرة· وقدوتنا في ذلك ما أنتجته الحركة الوطنية من نخب وقادة ومناضلين على اختلاف مشاربهم ومناهجهم وثقافتهم· والبون شاسع بين ذلك والفقر المدقع الذي عرفته مرحلة ما بعد الاستقلال الى اليوم·

فالعقول بهذا المعنى، ولسنا بحاجة إلى الملايين منها، هي التي ستحرك مثلا دبلوماسيتنا وسياستنا الخارجية لأن الدبلوماسية إبداع وحنكة وليست ''تقلد لمناصب بالخارج'' أو''مطية'' لأغراض أخرى·

الأمر ذاته يجب أن يحدث داخل مؤسستنا العسكرية التي استطاعت في مراحلها المختلفة، أن تنتقل من ''المناضل'' إلى ''الجندي والعسكري'' وستنتقل بحول الله من ''المجند'' الى ''المحترف''· إن نجاح عملية بروز هذه ''النخبة العسكرية'' سيحرك لا محالة الدوائر الأخرى داخل ''المجتمع المدني'' وذلك ما سيؤدي الى تكامل وتفاعل بينهما مما سينجح عملية الانتقال الديمقراطي والتحديث الاجتماعي وحتى الجامعة ذاتها، يجب أن تثور على نفسها وتسترجع وظيفتها وشرعيتها بتغيير مناهجها وأهدافها· إنها والله أصبحت حقلا خصبا للأمراض الاجتماعية وشتى أنواع الفساد الأخلاقي والعلمي والاداري· إنها لم تعد فاعلا ومحركا، بل فضاء بدون ''حرمة''!

إن العقل هو الثـروة والطاقة المتجددة الحقيقية وهو الوسيلة الوحيدة لأية تنمية مستدامة ولديمومة أية أمة· فإلى متى نظل نقتل عقولنا (وما أكثـرها) والى متى نظل ننتظر لحظة القطيعة مع الجهل والتخلف؟!

Publié dans المقالات

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article