القلم والعصا فضيل بومالة

Publié le

 

بسيط القول في علمي السياسة والاجتماع أن وجود الوحدة الأساسية أي الدولة ينتفي بانتفاء وظيفتها الرئيسة وهي الأمن· أما ديمومتها وفاعليتها فمرهونتان بطبيعة ومضمون مؤسسات وتنظيمات تلك الدولة ومكانة العقل والعلم فيها· لكنك حينما تجد أن دعائم الدولة يحطم بعضها بعضا وتتصارع حد الإلغاء بل وتتآكل داخليا حتى تفقد رمزيتها وشرعيتها ورسالتها، فإنك بالكاد ستتساءل بخوف شديد: ما الهدف من وراء كل ذلك وإلى أين؟؟!

فبقدر اختلافك مع السلطة، أية سلطة، وهو أمر مشروع بل ومحمود في أي مجتمع أقسم يمينا بالطلاق ثلاثا مع جاهلية الأحادية، بقدر ما تظل الدولة فضاءك الأخلاقي والمؤسسي الوحيد الذي تتعايش فيه مع غيرك أيا كانت أفكارهم وعقائدهم·

إن التأسيس لثقافة الدولة سيغنيك بالضرورة عن أسئلة السلطة وفخاخها وسيجعل منك فاعلا من فواعل الوجود الجمعي المبني على الاعتراف والشرعية والديمومة والقيم المثلى·· ولتترك السلطة لأهل الحيلة والمجازفة والظرفية والكفر بالآخر·

فروح الدولة بهذه الدلالة تتكرس في هيئاتها ومؤسساتها وتتناسخ في أجساد ومن ثم في سلوكات أفرادها، مما يجعلك تقول عنها ''دولة بالفعل وليس بالقول أو النصوص فقط''· إنك تعتقد، وأنا معك، أن مصيرنا مرهون بمصير دولتنا وليس بمصير ''السلطة'' التي نذكّرها جميعا بحجمها ودورها·· وأنها ليست أبدا الدولة ولا الأمة·

ما دفع بي لمثل هذا التفكير بصوت عال هو أن ''السلطة'' في مجتمعاتنا المتخلفة إما أن تتحامل على شعبها وتلصق به فشلها (تاريخيا الشعوب هي التي تكره أنظمة حكمها وتنقلب عليها، أما عندنا فيبدو أن العكس هو الصحيح)، وإما أن تفرغ مؤسسات الدولة من مضامينها ووظائفها· فخاصية احتكار الدولة مثلا للعنف المنظم بقوة القانون أساسية وضرورية للاستقرار والتوازن والاستمرار·· غير أن ذلك لا يخوِّل البتة للسلطة الحق، حتى وإن كانت شرعية ومنتخبة حقا وفعلا ديمقراطيا، أن تستغل ذلك لأغراض حزبية أو طائفية أو جهوية أو عصبوية· والأخطر من ذلك أنها تتستر في استغلالها لتلك القوة بغطاء النصوص القانونية والأحكام القضائية·

ولكم عليّ هذا المثال الذي يحز في نفسي، خاصة وأنه يطعن في ''قدسية'' الدولة وأركانها· إنه مثال العلاقة بين العلم والعقل ومؤسسة الجامعة ومن خلالها الأستاذ والباحث والمفكر من جهة، والسلطة بآلياتها وأجهزتها من جهة أخرى·

أيعقل، ونحن في القرن الواحد والعشرين، أنه كلما تأوه الجامعيون وعبروا عن تذمرهم من واقعهم العلمي والأخلاقي والاجتماعي، اعتبرتهم السلطة متآمرين مشوشين منحرفين عن المسار؟ أيعقل أن يدفن العقل في مقابر التخلف بعدما همش ''من أجل حياة أفضل، حينا، واغتيل بحد السيف والرصاص'' من أجل الشرع والدين ''حينا آخر، ونستمر في سلبه أبسط معانيه ومواقعه؟ أيعقل، ونحن نفاخر العالم بالتعددية والحريات الدستورية، أن يجابه المعلم والأستاذ بالمخبر والشرطي؟؟

إن كل نزاع أو اختلاف في الرأي أو تصادم في المصالح لا يُحل إلا بالحوار والاعتراف بالآخر· فمتى تعترف السلطة بعجزها من جهة، وبحاجتها للعقول والمعرفة من جهة أخرى؟ ومتى ستصبح ''ديمقراطيتنا'' مرادفا للشعب والمؤسسات الجوارية والحوار الهادئ البناء؟ إن المال لا يحل كل المشكلات والتخويف لن يزيد الوضع إلا تفاقما· وليس أحسن من تفاعل النخب فيما بينها بالسجال والمكاشفة وطرح البدائل كي تتشرب أشكال العنف المستقبلية اليوم قبل انفجارها غدا! فللجامعة والمدرسة كل الحق على السلطة حل أزماتهما ورد اعتبارهما· ولا خير في أمة لا تقدس أستاذها ومعلمها!

إنني بقدر ما أسائل السلطة (وهو أبسط حقوق مواطنتي) بقدر ما لا أبرئ الأطراف الأخرى من تكريسها للأزمة·· غير أني لا أقبل تحت أي طارئ أو طائل كان أن تستمر العصا في كسرها للقلم وأن يحل الدم محل الحبر مرة أخرى في جزائر أنهكتها الشعوذة والجهل والفساد باسم كل ألإيديولوجيات!

وإذا كان الخالق قد أقسم بـ ''القلم'' فإنه بحكمته جعل من ''العصا'' آية للتغيير بيد ''موسى'' وليس آلة للترهيب والتدمير بيد ''فرعون''!

Publié dans المقالات

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article