ديمقراطيات الاستبداد فضيل بومالة

Publié le

            

سبق لي وأن قلت في مقالات سابقة أن المفاهيم التأسيسية في الفلسفة السياسية للغرب المعاصر قد تهدمت ودرجت النخب الفكرية والعسكرية والإعلامية على إعادة بنائها وتعويضها بقيم جديدة تبشر بعالم ما بعد الحرب الباردة· وأزعم أنه ولأول مرة في تاريخ الغرب، تجتمع فيها نخب الفكر والسياسة على مشروع مشترك يقدم كنموذج عالمي جاهز للإنسانية قاطبة ·

وما يعزز هذه الاستراتيجية إقناع الغرب ذاته بأن النظام/ العالم وبأنه رمز وحامي القيم الإنسانية والمسؤول عن إقرارها وتنفيذها وجعلها نسقا كوكبيا لـ >الدولة العالمية المنسجمة <·

إن ثقافة الامبراطورية التي عادت للتشكل في الغرب منذ الربع الأخير من القرن العشرين، تريد المزاوجة خطيا بين فلسفة أثينا وعسكرة روما وجعلهما مرجعية التأصيل بروح يهودية ـ مسيحية أصولية متصهينة، ولا تلعب فيها الحداثة أو العمل والتقانة إلى دور الآلية والواجهة المبشرة بروح التسامح والاختلاف والتعايش والحرية والعدالة· وكلها قيم للتصدير فقط تبرر التدخل والغزو والاستعمار واستعباد الإنسان باسم الحق والحرية والديمقراطية ·

لقد قتل الغرب عقله وقيمه الكبرى التي ساهمت إلى حد بعيد في تطور الإنسانية·· ولم يعد يقدم للعالم إلا أسوأ ما فيه ·

والدارس لقيم الحرية والتسامح مثلا، سيكتشف أنها تراجعت داخل الغرب نفسه وخارجه بفعل بربريته والبربرية المضادة· والحكم نفسه ينطبق على العالم الإسلامي فيما يفكر وما يقدم للعالم ·

والسبب، فيما أرى، على المستوى الكلي راجع إلى التصادم الحقيقي بين روح الحضارة ونزعة الامبراطورية في الثقافة الغربية اليوم· وتفسير ذلك أن الحضارة تعني وتعنى بالإنسان، أما الامبراطورية فترجمة للقوة الاقتصادية والعسكرية لا أكثر··· وغالبا ما تكون منافية للانسان الذي أصبح فعلا > ذلك المجهول < · وقراءتي لذلك الصراع الذاتي ضمن أنساق الغرب هي التي تمكنني من إدراك خلفيات >صدام الحضارات< و>من نحن< عند صاموئيل هانتنغتون أو >نهاية التاريخ< و>نهاية الإنسان<عند فرانسيس فوكوياما· بمعنى أن الصراع مع الآخر (الشيوعية سابقا والإسلام حاليا) ما هو إلا انعكاس طبيعي لتفكك فلسفي وأخلاقي في المنظومة الغربية عموما والأمريكية خصوصا التي أصبحت تعاني من فقر القيم المؤسساتية ومن خشية هلهلة نموذجها ومن ثم تسرب قيم جديدة وافدة إليه· المأساة أن الثقافات الأخرى لا تقدم للإنسانية وللغرب إلا ما أراده هذا الأخير أن تقدمه· إما الانغلاق أو الهجوم المتطرف·· وأقصد هنا الكونفوشيوسية والإسلام ·

وعليه، فقد بات من الواضح أن الغرب هو ذاته عدو الغرب وبالتالي عدو للآخر· فالديمقراطية لم تعد تعني حرية الاختلاف بل ضرورة الاجماع ضد الإسلام مثلا·· كما أنها لم تعد تحريرا للإنسان بل استعبادا واستعمارا للشعوب وآلة للتدخل وإدارة الحكم وتدمير القيم الذاتية·· لقد انتقلت من فلسفة التصالح والتعايش والحوار وحل النزاعات إلى الانقسام والتفكك والحروب الأهلية·· لأنها أدارت ظهرها للقيم الأصيلة وتحولت إلى استثمار استراتيجي ·

إن الصيغة واللغة التي تقدم بها للعالم غيرت تماما مسارها وباعدت بينها وبين الشعوب المقهورة بل وامدت في عمر الاستبداد والأنظمة الأحادية والعسكرية وأحيت الرغبة في العودة إلى عهود التسلط وفاشية السلط الحاكمة· فمن الناحية الخارجية، صارت استعمارا ومن الناحية الداخلية تحولت إلى استبداد وغطاء على الفساد والظلم ·

إنها ديمقراطيات الاستبداد التي تترجم عمليا، سياسيا، وثقافيا واقتصاديا، إلى حصار فعلي على الشعوب داخليا وخارجيا· لقد عاد الغرب >الديمقراطي< ليتحالف مع >الشرق الاستبدادي< عبر قنوات جماعات المصالح والمجمعات الصناعية العسكرية، إن ديمقراطيات الاستبداد فلسفة جديدة لتوزيع جديد للأدوار والمصالح الطاقوية والثرواتية الأخرى من النفط إلى التنوع الحيوي، وأخطر من ذلك تداخل عاملين آخرين مؤثرين : أولهما أن النخب الثقافية أصبحت إن في الشرق أو الغرب إما مروجة لاتجاهات هذه >القيم< البديلة أو رافضة لها من دون تقديم أي بديل إلا ما انتجته بعض نماذج الحضارات السابقة ، وثانيهما أن وسائل الإعلام >الحرة< هي ذاتها أصبحت لسان حال هذا العالم·· علما أنها أي وسائل الإعلام هي التي صارت تنتج النخب المؤثرة والموجهة للرأي العام وصناع القرار وليس الأكاديميات والمدارس والجامعات ·

إن مفارقة الديمقراطية الاستبدادية أو الاستبداد القادر على دمقرطة نفسه عندنا، لا تقتل فقط القيم الإنسانية إنما تعطل مسارها وتفتح الأبواب أمام كل المغامرات· والحقيقة أن تلك المفارقة نتاج غربي خالص، فالفاشية والنازية غربيتان كما الديمقراطية وثقافة الحكم بالمؤسسات· أما استبداد الشرق بلغه كارل فيتفوغل، فله أصوله ومرجعياته ·

إن مستقبل البشرية في التقاء وتفاعل قيم الشرق الإنسانية وعبقرية المؤسسات الغربية علاوة على القواسم المشتركة في العلم والإبداع والتنوير، وليس أبدا في تحالف ثقافة الاستعمار التي تجسدها الولايات المتحدة الأمريكية اليوم باسم الديمقراطية والحرية، مع ثقافة الاستبداد والتسلط في بلادنا العربية الإسلامية· وعليه، لا مناص من ميلاد جيل جديد مختلف في رؤيته للتعايش والتكامل والسلم بعيدا عن الأصوليات وإرهاب الغرب والشرق بتعبير روجي غارودي· تلك رؤيتي انطلاقا من إيماني أن الحضارة الإنسانية واحدة ·

 

10/09/2006 المحقق

Publié dans المقالات

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article