التنوير والتغيير في فكر مالك بن نبي فضيل بومالة

Publié le

         
 

 

كثيرة هي الأقلام التي تردد التاريخ وتجتر >التراكم< ولا تتوقف عندهما إلا كمسارات وأحداث، لكن ما أقلها تلك التي تفكر التاريخ بغرض صناعته وفهم سيرورته·· وذلك هو الفرق بين المثقف والمفكر وبين مروضي الذاكرة ومحركي العقل، إن جرأة التفكير هي ذاتها لحظة القطيعة والطفرة وميلاد الإقلاع، وسر تلك الجرأة وكل ما يتلوها من دينامية وبناء يكمن في كيمياء الفكرة الحية الجديدة وقدرتها على تحرير الإرادة والعقل وتغيير الواقع وتصور الذات والمستقبل والعالم بشكل مختلف

مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ (5091 ـ 3791) واحدة من تلك الصفوة إن لم يكن أبرزها على الإطلاق·· ليس شهرة عند الجمهور أو زعامة في هذا التيار الفكري والسياسي أو ذاك·· إنما بما أبدعه من رؤية ومنهج ونسق معرفي·· مما صعب من مهمة قرائه ونقاده، وهم في الغالب تصنيفيون مؤدلجون في أحكامهم، سواء من حيث الفهم العميق لأطروحاته أو معرفة اتجاهه المعرفي· فهو عند الماركسيين إسلامي وعند الإسلاميين علماني وعند القادة والحكام فيلسوف مثالي

لقد كانت تلك التصانيف ـ ولاتزال على كل حال ـ مَرضية ومناهضة لكل اجتهاد ولأنه تحنيط وتنميط بل وتنظيم للمجتمع عقائديا مما سهل على دوائر السلطة اختلاق النزاعات وتوزيع الأدوار والتلاعب والتواطؤ بعيدا عن كل تفكير جدي في مشروع مجتمع حقيقي · لقد ولدت تلك الأمراض وترعرت في مراحل الاستقلال الوطني وما بعدها·· وها هو العالم الإسلامي، بلدا بلدا، يدفع أثمان تلك المراحل باهضة أصبحت تمس حتى كياناته وتهدد وجوده ·

حينما أقارب فكر مالك بن نبي ـ أو لنقل كما أفهمه ـ إنما أرى فيه النظام النسقي وثورة المعرفة بالذات وبالغرب ومن ثم إسهامه في بناء فكر إسلامي وعالمي جديد·· والثورة التي أسس لها ابن نبي من خلال استقلالية منهجه وتجربته الشخصية تكوينا والتزاما، تمحورت على ثلاثية الدين ـ الإنسان ـ التاريخ· وتشكل هذه الثلاثية، علاوة على مفاهيم أخرى أساسية وفرعية كالزمن والتراب والثقافة والاقتصاد والمجتمع والأفكار والقابلية للاستعمار·· إلخ، مدار مشروعه الحضاري البديل ·

فالدين عند الأستاذ مالك بن نبي ليس في العقيدة بحد ذاتها إنما في صقلها وتفعيلها إيجابيا·· بمعنى تحويل قيم الدين ـ وهو مشحذ الحضارة عنده ـ إلى منظومات اجتماعية ومؤسساتية ـ فالقرآن من خلال قراءته المتجددة غير التقليدية ليس وعاء لثقافة التبرير باسم العقيدة والمقدس، إنما منهج مفتوح يستدعي باستمرار تطور آليات الحضارة والخلافة في الأرض· أما الإنسان، فقبل أن يكون عضلة وجهدا فهو فكرة وعقل وذهنية وهدفا·· بمعنى أنه إما أن يكون فاعلا في التاريخ محوريا في معادلة الحضارة أو كمّا ماديا مستهلكا للحضارة وعبئا عليها· فإنسان ما بعد الموحدين، مثلا، لم يتراجع فقط عن سننية >ولقد كرمنا بني آدم< بل صنع ثقافيا قابليته للاستعمار·· تلك القابلية كشروط ذهنية وجغرافيا ثقافية وسياسية واقتصادية التي لم يفهمها حتى اليوم بعض ممن ينعتون إجحافا بـ >مفكرين< أمثال غازي التوبة في معظم كتاباته الهشة عن المرحوم مالك بن نبي ·

إن المعادلة عنده، رحمه الله، ثنائية تمتد من القابلية للاستعمار إلى الاستعمار ذاته·· ونضيف إليها إنسان ما بعد الاستعمار في العالم الإسلامي الذي يشكل حالة جديرة بالدراسة ·

إن >إنسان< مالك بن نبي جزء أساسي من >الظاهرة القرآنية< أي غاية من غايات الوحي كما أن >الله< عنده ليس عدوا للحضارة بل ملهما لها· والصورة تكاد تكون عكسية ومنافية لما هي عليه الفلسفة والكنيسة في الغرب· فالأولى قتلت >الإله< والثانية أجهزت على >الإنسان<·· مما جعل مالك بن نبي ـ على شاكلة غوته ـ يأمل في حضارة إنسانية قوامها روح الإسلام وفعالية الغرب· وهنا يمكن للإسلام المشاركة والإسهام في ظل الصراع الفكري القائم بين اتجاهات الفكر المادي والديانات السماوية والوضعية الاجتماعية في حلبة تديرها الصهيوينة بدون منازع >تحت غطاء الديمقراطية والإنسانية والعدالة <·

وبعيدا عن مفاهيم عصري النهضة والأنوار في أوروبا، فإن فلسفة التنوير عند مالك بن نبي لا تعني أبدا ذاكرتنا الحضارية الإسلامية التي تعرف بالعصر الذهبي وحضارة الأندلس· إن التنوير عنده فعل تاريخي مستمر وليس حقبة بعينها، وهو، كما يتضح لي، تطبيب سوسيو ـ نفسي للإنسان المسلم وتخليص له من >عقده< سواء في عقيدته وطرق تدينه وفي تفكيره وسلوكه مع نفسه والعالم المحيط به· فتخلصه من تلك العقد والمفارقات يؤهله لتجاوز مشكلاته الحضارية من جهة ويسهل عليه الخوص في ايديولوجيا الصراع والتدافع والمغالبة من جهة أخرى ·

وعليه، فالتنوير معرفة بالمرض والأدوات والأهداف وليس فقط شعارا فكريا أو سياسيا باسم الحداثة أو مناهضة الجمود والرجعية·· إنه حراك وتفاعل وتغيير قبل أن يكون مفاهيما أكاديمية يتداولها الدراسون بمعزل عن المجتمع والتاريخ··· فلكل أمة مناهج تنويرها ورسالتها ومنطلقاتها ·

والتنوير عند الأستاذ مالك بن نبي يعني الثقافة والتربية والدين والفعالية الاقتصادية لأن الغالب على مشكلاتنا بتعبيره ذو طابع سياسي واجتماعي واقتصادي ·

إن هدف التنوير بهذا المعنى هو التغيير الاجتماعي والتاريخي·· ومعادلة >التغيير< عند مالك بن نبي بسيطة لكنها حتمية وحاسمة كما جاء (ت) في وصيته: >··· إننا في فترة خطيرة تقتضي تغيرات ثورية: فإما أن نقوم نحن المسلمون بالتغيير في مجتمعاتنا وإما طبيعة العصر تفرض علينا تغييرات من الخارج·· لأن هذه هي روح العصر· فالذي يجب أن نؤكد عليه أولا وأن نتذكره دائما: أننا إذا لم نقم نحن بثورتنا فإن التغيير سوف يأتي من الخارج ويفرض علينا فرضا· أعيد هنا·· لأنه أمر أساسي <·

وخلاصة المقال أن مالكا ليس فقط فيلسوفا للحضارة بل مهندسا اجتماعيا صاحب منهج متكامل في البناء والتغيير، بيد أنه يحتاج، ككل فكر خلاق، إلى مراجعات نقدية وإضافات عملية تتماشى والمجتمع العربي الإسلامي في الألفية الثالثة· وتلك وظيفة كل مثقف مستنير وكل سياسي ملتزم بقضايا وطنه وأمته في زمن تشتد فيه ضرورة تحرير العقل والدين والأوطان من الشعوذة والتطرف والفساد وكل أشكال الاستعمار الجديد ·

 

     

Publié dans المقالات

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article