أمراض الخطاب في الجزائر فضيل بومالة

Publié le


لابد لي بداية من توضيح فكرتين رئيسيتين: تتمحور الأولى حول دلالة ''الخطاب'' ذاته· أما الأخرى فتحدد مجالاته التي أقصد تناولها باقتضاب في هذا المقال·

فما يعنيني مباشرة في فلسفة الخطاب هو البنية الذهنية الجماعية المنتجة له من ناحية وما سيولده بدوره من تراكيب من ناحية أخرى، وأحصر مقاربتي هنا في البعدين السياسي والفكري للخطاب في مرحلة ما بعد الاستقلال·

فكيف لثقافة عرفت التعددية السياسية زمن الاستعمار وجوره أن تتحوّل إلى أحادية إقصائية أداتها الانقلاب والعنف ضد الأشخاص والمؤسسات والقيم في مرحلة الاستقلال الوطني؟!

وكيف بنخب فكرية وثقافية تنتقل هي الأخرى من ''صناعة الوعي'' والتنوير والتحرير من خلال الكتابة والفنون الإبداعية المختلفة إلى موالاة الاستبداد وفي أضعف الحالات السكوت أو الانسحاب؟

لقد ظلت الجهود الفردية والانفعالات الخاصة هي السائدة عموما في السياسة والفكر·· ولذلك لم نستطع بناء قوى حقيقية، عكس مرحلة الحركة الوطنية، بإمكانها قول ''لا'' وتقديم ''بدائل'' حقيقية·

لقد بقيت تلك المبادرات ''المحدودة'' على قلتها رهينة تبرئة الذمة من جهة والأدبيات الكبرى من جهة أخرى·· فرحات عباس·· آتي أحمد·· محمد بوضياف·· الشيخ خير الدين·· ليبراليين ويساريين راديكاليين·· والأمر ذاته في جانب المثقفين·· محمد حربي·· عبدالمجيد مزيان·· كاتب ياسين·· مالك حداد·· مولود معمري·· مالك بن نبي·· الخ

لقد تركوا شيئا·· لكن لأنفسهم ولم يستطيعوا جميعا بناء تيارات حقيقية في السياسة والفكر·· وتلك كانت رسالتهم في ذلك الظرف التاريخي الحاسم الذي حدد المستقبل الذي نعرفه اليوم كدولة أو مجتمع أو أجيال جديدة·

وليس أدل على ذلك من أن الحراك الذي عرفته الجزائر منذ أكثر من عقدين من الزمن لم تؤسس له لا أفكار تلك ''النخب'' المثقفة  ولا ''مبادئ وشعارات'' السياسيين·· إنه الارتجال والشارع والتمرد الذي لا يعرف عن الثورات الثقافية أو الأنظمة الديمقراطية شيئا·· لكنه يعرف جيدا الواقع ويدرك تماما ضرورة التغيير·

فقد انتقلنا من مرحلة الانقلاب على الحكم بانقلاب آخر من الداخل لأسباب الحكم إلى المطالبة بالتغيير من الخارج، بدوافع الإصلاح ومقاومة الاستعباد ودفاعا عن كرامة الإنسان·

إن تفسير ذلك يجب أن يكون -كما أرى- انطلاقا من القطائع التي يعرفها المجتمع مع من تزعم أنها: نخب سياسية وفكرية''، لقد أدرك المجتمع من خلال السليقة والبديهة والرشاد في الملاحظة أن السياسي والثقافي وجهان لعملة واحدة إلا فيما قل وندر·· كما أدرك تماما أن السياسة انتقلت من فن إدارة المصالح العامة إلى سلطان المصالح الخاصة·· ومحاولة إقناعه بالعكس ضرب من المستحيل· وإذا كان ذلك هو المظهر العام للهري الخطير والتفسيخ المعمم الذي وصلنا إليه، فإن ذهنية السياسي والثقافي وعلاوة على فشلها في بناء نسق لما يجب أن نكون عليه دولة ومجتمعا·· وهي تفتقد صراحة لأدنى تصور اللهم إلا تلك العموميات المستوردة من هنا وهناك، فإنها تشترك في أمراض مزمنة أصابت تركيبتها العقلية وذاكرتها وبصيرتها·

لقد انتقلت أمراض ''الخطاب السياسي'' إلى ''الحقل الفكري'' وأصبحت اللغة واحدة·· والسلوك واحدا·· وكذلك الفعل ورد  الفعل وكأني بالظاهرة تجسيد حقيقي لنوع من الاستنساخ زاد في سلطة الفراغ وكرس الوضع القائم ووقف حاجزا أمام كل تنوير للذهنيات أو تغيير للممارسات أو بناء للمؤسسات·

لقد توطدت دعائم العدمية والإلغائية والمحو على حساب التراكمية والتفاعلية بين المسارات والتجارب والأفكار·· وسيطرت الماضوية وإعادة إنتاج الوهم على الثقافة المستقبلية والاستشراف·· فأصبح زمننا يحسب عكسيا ومكانتنا تقاس بما كنا عليه وليس بما سنكون عليه·· كما تعززت الشخصائية، بعدما كنا نتصور أن عهد الزعامات الغاشية قد ولى، على حساب الروح الجماعية والمشاركة الفاعلة للاختلاف· أما النزعة البربرية ـ لصالح السلطة دائما ـ فلها رجالاتها ووسائلها على حساب العقلانية والروح النقدية مما جعل سلطة السحرية والعودة لحديث الدجل والخرافة والأسطورة تحل محل الحقيقة والواقعية وعدم الكذب المستمر على الذات·

إن سرعة انتشار هذا الخطاب بأمراضه تزداد يوما بعد يوم من خلال وسائل الحداثة وعلى كل المستويات·· والحق الحق أنه إذا كان لابد من الإصلاح بدل الجمود والتغير الهادئ بدل العنف والثورة، فإنه باعتقادي يجب أن يبدأ من ذهنياتنا ونفسياتنا قبل كل شيء لأن خطابنا مريض ونحن كذلك!!
 الجزائر نيوز 20/07/2006

Publié dans المقالات

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article