الدولة و طاعون الجهوية 2 فضيل بومالة

Publié le

 

 إن طاعون الجهوية يزداد تفشيا كلما تراجعت قيم الدولة الوطنية وأصبحت منظومات الأفراد والعُصب هي المتحدث الرسمي باسم الجمهورية بدلا عن سلطة المؤسسات وروح القوانين·

وقد رافقت الظاهرة الاستقلال ذاته بصورة غير معلنة وتستر وراء استراتيجيات التنظيم التي عرفتها ثورة التحرير من حيث الولايات والداخل والخارج والعسكري والسياسي·· الخ· وكم كان ذلك التنظيم فعّالا في مسار الثورة ونجاحها لأنه استطاع إلى حد كبير تجاوز الجغرافيا البشرية (القبائل والأعراش والجهات) إلى مستوى جغرافيا عسكرية وسياسية·

ولكن بقدر ما كانت الثورة وطنية شاملة، بقدر ما تحول الاستقلال إلى حكم الزمر بمصالحها المادية والهيكلية وروحها الجهوية، ويتضح ذلك جليا في طبيعة تشكيل الحكومات المتعاقبة واعتلاء المناصب الحساسة وتوزيع الريع على المناطق المختلفة (رغم خطاب التوازن الجهوي)· وقد مسّ المرض الأسلاك جميعها حيث أصبحت الجهوية معيارا أساسيا في النظام الاقتصادي والسياسي وحتى التمثيل الدبلوماسي· إن المركز الذي تسيطر عليه شرعية القوة أصبح صانعا للتهميش والإحباط الاجتماعي اللذان تعمّما على المجتمع كله·· لأنه كلما انتقلت السلطة من هاته الجماعة إلى تلك كلما رافقتها مباشرة تلك الآليات وانعكاساتها على الأجزاء الأخرى من المجتمع· فالتحول كان دائما (حتى وإن كان مطعّما بالشعارات والشرعيات) إما انقلابيا أو جماعاتيا حسب المناطق· فالسلطة ''المركزية'' لـ'' الدولة الوطنية'' أصبحت تعطي الانطباع أنها انتقلت فقط من مستوى القبيلة والعرش إلى الجهة· وعليه، لم يُبن مفهوم ''التداول'' على منظومة مؤسساتية (مركزية أو ديمقراطية) وإنما للأسف على أساس ''جماعة الشرق'' و''جماعة الغرب'' و''جماعة القبائل والوسط''· وحتى تلك ''الجهويات'' انقسمت على أنفسها إلى جهويات نووية،

فأصبح الشرق يعني تارة جماعة باتنة - تبسة - سوق أهراس وتارة أخرى جماعة الشمال القسنطيني أي عموما قسنطينة- سكيكدة- جيجل·

وكذلك الغرب فمرة يقصد به جماعة تلمسان ومرة أخرى يستدل به على الولايتين الرابعة والخامسة (وفي الأمر تفاصيل)··

وقد تعقّد الأمر أكثر حينما انتقلنا إلى تكتلات وشبه تحالفات ظرفية بين هذه المنطقة مع تلك ضد منطقة أخرى·

إن هذه الذهنية المريضة، ذهنية التمييز الجهوي، لم تستفد لا من روح الثورة وأخوتها (وعصاها أيضا!) ولا من فلسفة الدولة الوطنية الحديثة·· مما جعل ''عقلنا السياسي'' يظل ''صبيانيا'' ولم يرق بعد إلى رجولة الحركة الوطنية وثورة التحرير·

وإذا ما أردنا التعمق في فهم أسباب مرض الطاعون هذا (والذي لا ينفع معه علاج الـ ''سترابتوميسين'') فإنها لا تعود فقط للبنية الذهنية والثقافية لجزء من جيل الثورة الذي استغل عبقرية هذه الأخيرة للاستيلاء على الحكم بأية وسيلة وبأي ثمن، فقتل روحها وأجهض استقلالها·· إنما ترجع أيضا إلى عدم تشكل ثقافة للدولة وعدم القدرة على بناء ''المدينة الجامعة'' عوضا عن ''المدينة القرية'' من خلال نموذج ''العاصمة'' السياسية والاقتصادية والثقافية· فالمدينة - الجامعة أي الكوسموبوليتانية تعني التنوع والاختلاف والانصهار والتعايش والتسامح واللامناطقية واللاجنسية والمفتوحة القادرة على الاستقبال والاحتضان·· غير أن ''عاصمتنا'' لم ترق إلى ذلك بل أصبحت هي ذاتها الصانعة للعُصب والجهويات والقبليات فتريّفت روحا وشكلا، علما أن الريف ذاته، بخصائصه الأنثربولوجية والاجتماعية والجمالية، فقدَ هويته·

إن مركزية السلطة سياسيا عموما ومركزتها بالعاصمة (في كل شيء) خصوصا، صنع هوامش كثيرة تبحث لنفسها عن مكانة ما في دوائر القرار انطلاقا من هذه الشرعية أو تلك الجهة·· الخ·

إن الفروق والتصنيفات الثقافية والعرقية التي وضعها الاستعمار في الجزائر (العرب، البربر، القبائل،···الخ) والتي قاومتها الحركة الوطنية وقضت عليها الثورة بصفة شبهة نهائية، أحيتها السُّلط السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال ونشرتها من خلال التنظيم الثقافي والبشري والاقتصادي والانتخابي (من خلال الخارطة السكانية) للعاصمة، فالمجتمع خارجها لا يفرق بين جزائري وآخر وبين جهة وأخرى بل ويلفظ ذلك التعبير عكس السلطة التي تتغذى منه وأرادت أن تغرسه في الأحزاب السياسية في تضييق الخناق عليها على مستوى التمثيل الوطني وحصرها في كانطونات وجهويات معينة·

إن ثقافة الجهوية تزداد خطورتها ويتجذّر تقزيمها لقدرات الأمة وانتهاكها لحرمة الشرع والدستور وفلسفة الدولة يوما بعد يوم لأنها، علاوة على ضيق أفقها ونفيها للأنا الجمعي، أضحت تعني أكثر من أي وقت مضى الإقصاء المطلق والانتقام المقنن وفن الرداءة·

فبدلا من تداول الأفكار والقدرات البشرية على الحكم، تعيش ''جزائرنا المحروسة'' تداولا للعُصب المرتبطة بسلطان القوة والجهويات القاتلة·

الكل ينتظر أفول خصمه وسطوع نجمه وحلول دوره·· من باب >وتلك الأيام نداولها بين الناس< هي كلمة (آية) حق نعم·· لكن يراد من ورائها باطل!

 يتبع

Publié dans المقالات

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article